كُتب هذا النص في أواخر العام 2002م .. مرّت السنوات و لم أغيّر فيه كلمة .. لأنه ” بمثابة الذكرى ” التي لا أريد تشويهها أو إنقاصها ” …تحية لجدي الذي كُتب هذا النص قبل مرضه و وفاته !
نزهة وذكرى
انطلقت بنا السيارة بهدوء .. كانت العاشرة والنصف مساءً , نسمات الهواء الصيفية العليلة تداعبنا من فتحات النوافذ , الجو معتدل , ولذا فضلنا جميعاً أن نستمتع بالهواء ونقاءه بعيداً عن جهاز التكييف ..
كنا جميعاً نشعر بالملل , هنا قال أخي الأكبر : ما رأيكن أن نتمشى بالسيارة ؟
باستحسان رددنا جميعاً نحن الفتيات .. فمن الذي يرفض الخروج وتغيير الجو في ليالٍ صيفية منعشة ؟!!
سارت بنا السيارة بهدوء في شوارع قريتي الحبيبة .. وببطء أختار أخي الطريق
الزراعي الذي يؤدي للمدينة , وبالتالي للبحر …
آهٍ لكم أحب هذا الطريق الزراعي , كم أحمل من ذكريات رائعة عنده , كم أعشق مسيري بالسيارة فيه !!
ما إن بدأنا ولوجه حتى فتحت غطاء وجهي .. هذا الشارع كم من الجمال يحمل .. يخلو من الناس ويندر أن تتواجد فيه السيارات , و إن تواجدت تلوح أنوارها من بعيد لنسدل خمارنا مسرعات قبل أن يلمحنا السائق في عتمة الليل ….
كان الصوت الصادر من مسجل السيارة إضافة لذلك الشارع , ينقلني لذكريات
محببة .. لذكريات غالية …
شريط قديم .. ظهر منذ خمس سنوات , مرت فترة طويلة على آخر مرة استمعت له فيها .. رغم أنه محبب عندي .. كان صالح درازي يشدو فيه بصوت قوي
, حزين , جهور , ليجعلني أرحل للبعيد معه ..
” زينبٌ إن دنياي حقاً ظالمة “
” فأنيري إليّ الدروب المظلمة “
رائحة تراب الأرض تعطر الهواء الذي أتنفسه , للأرض رائحة لا يقدرها إلا من يعشقها… رائحة الرطب المتدلي فوق النخيل بجمال .. تتسرب إلى الأنف بعذوبة ..
نقترب من نهاية الموسم , لم يبق من الرطب إلا القليل , أنواع لا تنضج عادةً
إلا متأخرة ذات ألوان أحمر و أصفر و أرجواني وبني .. ( هلالي , شهل , خنيزي ) ..
رائحة الرمان والرياحين .. الجوري .. الفل .. الليلك .. الورد المحمدي ” ورد مايو “..الياسمين .. اللوز ..الليمون .. المنبثقة من على جانبي الشارع تتسرب لنا ببساطة .. رائحة التراب الذي أختلط بدماء وعرق أصحابه .. أجدادهم رعوها بدمائهم ضد سلب ونهب العثمانيين وغارات قطاع الطرق .. وهم يحافظون عليها بكل ما أوتوا من قوة , لتنتقل من جيلٍ إلى جيل .
صوت نقيق الضفادع المنبعث من القناة المائية وصوت أبو زنة ” الحشرة السوداء ” يختلط مع صوت المسجل بتناغم تام .. لكم لي في هذا الشارع من ذكريات!!
خرجنا من الطريق الزراعي .. وبدأت السيارة تقطع الشوارع العامة محافظة على هدوءها .. والصوت منها يصدح ..
” ما لأوتاري لا تشدو بغير الشهقات
تهت في الدنيا وما جئت بغير الحسرات
ودمعي هاتن … وروحي خارجة
ونحري ساخن .. جراحي ناضجة
صل يا قلبي إلى الله فإن الموت آت
صل فالنازع لا تبقى له غير الصلاة “
أحفظ هذا الشارع بكل رقعةٍ فيه , كنت أمر به يومياً للذهاب للمدرسة والعودة منها..
كنت أتأمله سارحة بأفكاري ..
كم أتوق لنفسي طالبة , أتعثر بمريولي الرمادي الطويل .. أشتاق صديقاتي ..
لبراءة تلك الأيام .. لشغبها المجنون .. أشتاق صديقتيّ اللتين فارقتهما منذ أعوام !!!
وصلنا للبحر المزدحم .. بالصغار قبل الكبار , وبمجموعات الشباب المتناثرة
هنا وهناك , يتحّلقون حول ” الشيشة ” , وبعضهم يطرب مع صوت المغني الصادر من المسجل الذي يأتون به عادة …
قلةٌ من العائلات تأتي لهذا الشاطئ .. فهو مزدحم بالكثير من الشباب .. وهذا يعني أنهم لن يأخذوا راحتهم ..
لذا فضّلنا جميعاً تأمل البحر .. في سيارتنا الماضية بهدوء ..
في الشارع المتصل بالشاطئ , وحيث الصوت لا زال يعزف على أوتار الروح
” و اقرأ الآلام فيها …. بنجيع العبرات
أسطراً تلهب رعباً …. لمعاني الكربات
قد رماني الدهر سهماً .. بأدق الفلجات
كل يومٍ أتلقى … منه أعتى الضربات
فمللت الليل حيناً …. هل فضاء النصر آت “
الأنوار البرتقالية والبيضاء تنعكس على صفحة البحر بهدوء ..
كسلسلة منظومة , تهب البحر جمالاً وبريقاً ..
والبحر , عشقٌ لمن يجيد مناجاته , أمواجه المتحركة ببطء تصدر موسيقى
رقيقة عذبة تبعث على الهدوء , تدعوني لمناجاتها ..
يا بحر .. كم تحمل من آلام يبثها لك البشر!! ..
سيارات الآيسكريم تنتشر في كل بقعة .. كثيرٌ من الشباب يعيشون من دخلها ,
ويعيلون أسرهم , بعد أن لم تنفعهم شهاداتهم الجامعية في الحصول على وظائف,
ولابد أن يكفوا ” أمهم و أخوتهم ” الحاجة للغير , فليكن أي عمل , ولينسوا شهاداتهم ..
سكون الليل يهب البحر سطوةً وسِحر ..
البحر يترنم بهدوء , ورغم ضجيج رواده , لازال يمنحهم السكون ..
انتهى الشارع , ومضينا في طريق العودة .. الشوارع هادئة ..سيارات قليلة تمضي فيها ..
وصلنا لشارع العودة .. الطريق الزراعي الآخر .. حيث لا تتوسطه قناة مائية
وينفرد للعودة فقط ..
ومن رائحة البحر .. إلى رائحة التراب .. ورائحة النخيلات اللاتي انتشرن على جانبي الشارع بكثرة ..
الحشائش التي نمت واستطالت .. حتى إن المرء يستطيع الاختباء بينها وهو واقف ..
وصلنا لقريتي الغافية تحت ستار النجوم .. وتوجهنا للمزرعة , لكم اشتقت إليها ..
بهدوئها المعتاد سارت السيارة وتوقفت بنا عند الباب الخارجي ..
توجه أخي لفتحه حيث الصوت لازال يشدو
” قد رأينا الفجر في ليل الدجى مرسوما
و أخذنا الصبر من زينبنا ناموسا
وجهاد السبط قد صار لنا قاموسا
يبطل الشعر إذا ألقى عصاه موسى “
دخلنا المزرعة .. ونزلنا من السيارة .. نحن ..يرافقنا أخينا الأكبر ..
تحت جنح الظلام , أمسكت بيد عقيلة والتي انزعجت منه , رغم أن النجوم
تنشر شيئاً من النور ..
وصلنا لمنتصف الشارع بالمزرعة .. و أضاء أخي الأنوار .. كان كل ما في المزرعة هادئ وساكن..
مشينا بين أشجار التين والنارنج , والنخيلات اللاتي هنا وهناك , أشجار الليمون
والرمان , والترنج , أزهار السوسن والفل , والزينة .. والرياحين المتناثرة ..
قطفنا منها القليل .. صرت أبحث عن الريحان العبق أقطفه لأهبه لعقيلة ..
والتي سعدت به ..
عقيلة ما رأيك أن تطعمي البقر بعض الدخن ” نوع من الحشائش ” ..
لا ..لا .. لا .. شكراً لن أفعل ..
يستحيل على عقيلة أن تفعلها .. أعرفها ..
يا عقيلة الأمر ممتع وغير مخيف ..جربي ..
لا .. لا .. لن أفعل قلت لكم ..
صدقينا , يلاّ جربي , … بدأت تحتج بشبه بكاء ..أوه ..قلت لكم لن أفعل ..
وبين إلحاحنا واعتراضها .. طلب منها أخي مرافقته ليطعم البقر ..أمسك بيدها الصغيرة وذهبا.. حسناً هذه الطفلة الصغيرة العذبة بكل ما فيها , سحر عينيها وابتسامتها ..
لا زلت أتلمس أوراق الشجيرات الصغيرة , لأعرف ما زرع جدي مؤخراً
ولأميزها من خلال الظلمة ..هنا أشجار تين .. وليمون .. ورمان .. وملوخية
وتوت ..
المذبح الصغير ..الذي بني .. وفيه شهدت لأول مرة في طفولتي ذبح الماعز الأم ..والتي ظل صغيرها بعدها يتيماً .. لازالت الصورة عالقةً بذهني .. فضولي الشديد كان يدفعني للرؤية ومشاهدة منظر الذبح ..
كانت النتيجة ببساطة أنني منذ ذلك اليوم , حرّمت على نفسي أكل اللحم ..حزناً
و ألماً واعتراضاً على قسوتنا نحن البشر!!
نقتل لنتمتع بالأكل .. حين كبرت .. رأيت الكثير من القتل , بنزف الدماء ونزف القلوب .. و كم رثيت إنسانيتنا المستباحة!!
بقت عقيلة على الأرجوحة , تركناها حتى تأخذ كفايتها من اللعب .
بعدها قررنا العودة ..خرجنا من المزرعة ونحن نتأمل النجوم التي تزين السماء بروعة ..الريحان بيدنا يشعرنا بالنشوة .. انتشرت رائحته في السيارة
والتي عندما دار مفتاحها صدح الصوت
” ما أسولف لك على قلبي اش تحمل
يا العزيز اسمع مآسيّ وتأمل
شاشتكي وش أبتدي من أي مصيبة
أختنق بالعبرة والمدمع تهلل
ذوبتني حنّة أطفالك يا مبرور
وما يهمني السوط عل ظهري تحول
3 / 9 / 2002 م